هذا هو الجزء الثاني من محاضرة ألقاها ديفيد نورث، رئيس هيئة التحرير الدولية لموقع الاشتراكية العالمية وحزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة)، في جامعة ميشيغان في نوفمبر/تشرين الثاني 1993، ضمن احتفال اللجنة الدولية للأممية الرابعة ورابطة العمال، سلف حزب المساواة الاشتراكية (الولايات المتحدة)، بالذكرى السبعين لتأسيس المعارضة اليسارية. تستعرض المحاضرة الأصول السياسية للمعارضة اليسارية، التي تأسست في أكتوبر/تشرين الأول 1923، في سياق الوضع الموضوعي الذي واجهه البلاشفة بعد ثورة 1917، والاتجاهات السياسية المختلفة داخل الحزب البلشفي. نُشر الجزء الأول في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
السياسة الاقتصادية الجديدة
من الضروري توضيح العلاقة بين سلطة الدولة والمجتمع الذي تُمارس فيه. فالتاريخ، كما يُدرّس عادةً في المدارس والجامعات، يُقدّس سلطة الدولة: فهو ينسُب قوى خارقة إلى من يمسكون بها، كما لو أن هذه القوة وضعتهم فوق المجتمع وتناقضاته. أزالت الماركسية غموض مفهوم سلطة الدولة، وُبيّنت أنها في جوهرها علاقة اجتماعية بين الطبقات، مُحددة تاريخيًا. وصل البلاشفة إلى السلطة في ظل ظروف دولية ووطنية مُحددة. وبالطبع، فإن السلطة، في أيدي حركة ثورية تُدرك ما تُريد تحقيقه، يُمكنها إحداث تغييرات عميقة في مسار التطور الاجتماعي، لكنها ليست مطلقة القدرة. فالحزب الثوري الذي يتولى السلطة لا يُصبح، منذ تلك اللحظة، المُحدد الوحيد للعملية التاريخية. ولا يُمكنه ببساطة أن يُملي على المجتمع ما يُريده. ولا يُنشئ علاقات اجتماعية من جوهره. إن الحزب الثوري الذي يصل إلى السلطة يُصبح عاملًا بالغ الأهمية في مسار التطور الاجتماعي. ولكن حدود هذا التأثير مشروطة بمجموعة من العوامل التاريخية السابقة، ناهيك عن مجموعة معقدة من المتغيرات السياسية والاقتصادية الدولية.
لا يقتصر الأمر على تأثير الحزب على الظروف الاجتماعية التي تواجهه عند توليه السلطة، بل يتأثر بها أيضاً. استطاع الحزب البلشفي، من خلال المراسيم، إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لكنه لم يستطع محو ألف عام من التاريخ الروسي. لم يستطع محو جميع أشكال التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي المختلفة التي تطورت في روسيا على مدى قرون عديدة. لم يستطع محو أمية الفلاحين بين عشية وضحاها. لم يستطع تعليم الثقافة السياسية والاجتماعية لجماهير لم تختبرها قط. أدرك البلاشفة أنهم ليسوا وحدهم من شكلوا القوى الاجتماعية في روسيا، بل إن المجتمع الذي استولوا فيه على السلطة هو الذي شكلهم. ركز البلاشفة أنظارهم باستمرار على الثورة العالمية لأنهم أدركوا جيداً أنه ما لم تُتح الطبقة العاملة في أوروبا الغربية، التي امتلكت أحدث التقنيات والعلوم والثقافة، هذه الموارد لروسيا السوفيتية، فإن النظام البلشفي سيُسحق. بحلول عام 1921، ما كان الخطر الأعظم الذي واجه دولة العمال الفتية هو التهديد بالهجوم العسكري الإمبريالي، بل إرث التخلف الاجتماعي والعلاقة غير المواتية بين القوى الطبقية.
بحلول أوائل عام 1921، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الأساس الاجتماعي للنظام، على الرغم من انتصاره على البيض في الحرب الأهلية، آخذ في الضعف. شهدت المراكز الصناعية الكبرى تدهوراً كارثياً. لقي العديد من أفضل العمال، الذين كانوا في الحزب البلشفي، حتفهم في الجبهة. وتم استقطاب العديد من الناجين إلى جهاز الدولة. وأُبعد العمال البلاشفة القدامى عن أماكن عملهم. في الوقت نفسه، ازداد قلق الفلاحين، وبحلول أوائل عام 1921، أصبح من الواضح أن سياسة شيوعية الحرب لا يمكن أن تستمر. ما كانت 'شيوعية الحرب' شيوعية بالمعنى الذي تصورته الماركسية كشكل من أشكال المجتمع قائم على أعلى مستوى من التطور للقوى المنتجة، حيث يمكن توزيع جميع ثروات المجتمع بشكل عادل بين الجماهير نظراً لوفرة السلع المتاحة. بل كانت نظام إنتاج وتوزيع المركزي ضرورياً لغرض كسوة وإطعام وتسليح الجيش الأحمر. أوضحت الانتفاضة التي شهدتها كرونشتادت في مارس/آذار 1921 للبلاشفة أنه من الضروري تغيير المسار.
وأدركت الحكومة البلشفية عام ١٩٢١ أن عليها أن تأخذ في الاعتبار تطوراً ثوريًا أطول أمداً في أوروبا الغربية. فقد صمد البرجوازيون في أوروبا الغربية في وجه العواصف التي أعقبت الحرب. ونشأ توازن جديد، وإن كان هشاً، وكان من الضروري وضع استراتيجية طويلة المدى تُمكّن الحكومة البلشفية من البقاء حتى موجة ثورية جديدة. كما أدرك البلاشفة أن قلة خبرة الأحزاب الشيوعية الجديدة كانت عاملاً مهماً في هزيمة الثورات السابقة. واتضح أن أزمة قيادة الطبقة العاملة، التي انكشفت بخيانة الأممية الثانية في أغسطس 1914، ستستغرق وقتًا أطول للتغلب عليها. و ما كان تأسيس الأممية الثالثة إلا بدايةً لعملية بناء طليعة ثورية جديدة. وقد قدّمت النكسات التي واجهتها الطبقة العاملة الأوروبية بين عامي 1918 و1921 دليلاً عمليًا على أن قدراً هائلاً من التثقيف السياسي كان مطلوباً قبل أن تتمكن أحزاب الأممية الثالثة الفتية من وضع نفسها على رأس الجماهير.
ماذا كان على الحزب البلشفي أن يفعل في هذه الفترة؟ في مارس 1921، في المؤتمر العاشر للحزب، أصدر لينين دعوة إلى تراجع عام. دافع عما أصبح يُعرف باسم السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP)، التي اقترحها تروتسكي في البداية عام 1920. كان الغرض منها إعادة بناء الاقتصاد الروسي من خلال استعادة العلاقات الممزقة بين المدينة والريف، وتهدئة الفلاحين، وإحياء التجارة والصناعة على أساس تنازلات واسعة النطاق للعناصر الرأسمالية داخل روسيا السوفيتية. كان هذا ما وصفه لينين بصراحة بأنه شكل من أشكال رأسمالية الدولة. كان الهدف هو تهيئة الظروف التي يمكن للفلاحين فيها مرة أخرى زراعة وحصاد محاصيلهم على أمل تحقيق ربح، وتوفير هذه المحاصيل للمدن، وإطعام الجماهير الحضرية، وبهذه الطريقة، إحياء الاقتصاد السوفيتي. ومن السمات المميزة، أقر لينين بأن السياسة الاقتصادية الجديدة تمثل نكسة. قال في الواقع: 'هذا تراجع. نتراجع لأننا نواجه وضعًا دوليًا غير مواتٍ وضرورة وضع استراتيجية طويلة المدى. لم يتحقق أملنا الأولي في أن تُطلق الثورة السوفيتية ثورة عالمية بسرعة كبيرة، وعلينا تبني سياسة مختلفة'.
قدمت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) تنازلات واسعة النطاق للتجارة والصناعة الخاصة. ففي الريف، سُمح للفلاحين باستئجار أراض وزراعتها، وتوظيف العمال، وبيع فائضهم في السوق بعد دفع ضريبة نقدية أو عينية. وسرعان ما ظهرت فئة من الفلاحين الأثرياء عُرفت باسم 'الغولاك'. أما داخل المدن، فقد ازدهرت التجارة والأعمال الخاصة، متمثلة في ما يُعرف بـ'رجال النيب'، الذين ما اقتصروا على صغار التجار فحسب، بل شملوا أيضاً كبار رواد الأعمال. وبحلول عام 1922، أُنشئت بورصة تجارية في موسكو.
عواقب السياسة الاقتصادية الجديدة
وصف لينين، كما أشرت، اعتماد السياسة الاقتصادية الجديدة بأنه تراجع فُرض على النظام البلشفي نتيجة هزيمة الموجة الأولى من النضالات الثورية في أوروبا. وقد خففت النجاحات الاقتصادية التي حققتها هذه السياسة من المخاوف التي أعرب عنها هو وآخرون بشأن التأثير السياسي للسياسة الاقتصادية الجديدة، واستقر الوضع الاقتصادي. بفضل الحصاد الوفير في عامي 1921 و1922، ونجت روسيا السوفيتية من كارثة. ومع ذلك، فإن السياسة الاقتصادية الجديدة، وإن كانت ضرورية وصحيحة، إلا أنه كان لها، إن صح التعبير، 'سلبياتها'، التي كانت عواقبها، وإن ما كانت واضحة تماماً، بالغة الخطورة على سلامة النظام السوفيتي على المدى الطويل.
مع استقرار اقتصاد روسيا السوفيتية، عادت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) بفائدة مباشرة على الفئات غير البروليتارية في روسيا. عززت نجاحات السياسة الاقتصادية الجديدة مكانة وثقة ليس فقط أغنى فئات الفلاحين، بل وفئة من رجال الأعمال الذين شعروا بفرصة جديدة للحياة. وبرزت مجموعة شديدة النفوذ من صناعيي السياسة الاقتصادية الجديدة، والمعروفين، على نحو ساخر، باسم 'المديرين الحمر'، وكان العديد منهم جزءاً من البرجوازية الروسية القديمة، التي حققت من جديد مكانة مرموقة، سياسياً واقتصادياً، في ظل الوضع الجديد.
إحياء النزعات القومية
انعكست السياسات الاقتصادية للسياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) حتماً على شكل تغيرات سياسية جوهرية. أولاً، طرأ تغيير كبير على حجم وتركيبة الحزب البلشفي. فعشية ثورة فبراير، ما تجاوز عدد أعضاء الحزب البلشفي 10,000 عضو. وخلال عام، نما الحزب بسرعة هائلة، و على الرغم من وجود تقديرات متباينة لحجمه الدقيق، يمكن الجزم بيقين معقول بأن عدد أعضاء البلاشفة وصل إلى 45,000 عضو على الأقل بحلول أكتوبر. وربما كان العدد أكبر بكثير. وبغض النظر عن حجمه الدقيق، فقد ضم الحزب البلشفي الغالبية العظمى من العناصر الواعية سياسياً والمناضلة في الطبقة العاملة. واستمر الحزب في التوسع خلال الحرب الأهلية، لا سيما مع تزايد احتمالات النصر النهائي. وبطبيعة الحال، كان أولئك الذين انضموا إليه مع نهاية الحرب الأهلية غالباً من عيار مختلف تماماً عن أولئك الذين انضموا إليه في البداية. لذا، رأى لينين أن تجاوز عدد أعضاء الحزب 386 ألفاً بحلول عام 1921 مدعاة للقلق. و تحدث كثيراً عن 'الأوغاد' الذين تسللوا إلى الحزب البلشفي سعياً وراء مناصب وامتيازات. وأطلق المؤتمر العاشر في مارس 1921 حملة تطهير سياسي لإزالة هذه العناصر من الحزب، فطرد الآلاف منه.
لمحة عامة عن نمو الحزب البلشفي حتى عام 1921. يشير العمود الأوسط إلى عدد الأعضاء الجدد المنضمين في العام المذكور. المصدر من: جايل لونيرغان، 'شيوعيو الورق - عضوية الحزب البلشفي في الحرب الأهلية الروسية'، في: دراسات شيوعية وما بعد شيوعية، آذار/مارس 2013، المجلد 46، العدد 1 (مارس 2013)، ص 140.
على الرغم من هذا التطهير، شهد المزاج العام داخل الحزب تغيراً ملحوظاً. فبحلول عام 1921، وبعد أربع سنوات من الثورة والحرب الأهلية، التي سبقتها ثلاث سنوات من الحرب العالمية، لوحظ نوع من الإرهاق السياسي داخل الحزب البلشفي. في النهاية، إلى متى يمكن للرجال والنساء أن يعيشوا على حافة السكين؟ الظروف التاريخية التي تكون فيها البطولة أسلوب الحياة اليومي هي بطبيعتها استثنائية. هناك نقطة، وقد لوحظت في كل ثورة، يبدأ فيها رد فعل ضد 'نمط الحياة البطولية'. بحلول عام 1921، بدا أن النظام البلشفي قد حصّن نفسه ضد أعدائه الداخليين والخارجيين. ومع انحسار خطر الانقلاب أو الانهيار، برزت لدى كثيرين ممن تحملوا الكثير لضمان انتصار الثورة رغبة في التمتع بظروف أكثر راحةً فيما تبقى من حياتهم، وجني ثمار جهودهم السابقة إلى حد ما.
ما أضفى على هذه الأجواء أهمية سياسية خاصة هو الظروف الموضوعية التي سادت في روسيا السوفيتية، حيث كان الواقع الحياتي المحوري والأساسي هو التناقض بين الطابع الاجتماعي للثورة والتخلف العام لروسيا. فعلى الرغم من أن النظام أمّن نفسه ضد التهديدات المباشرة، إلا أن السكان عاشوا في ظروف عوز شديد. ومع استقطاب أعضاء الحزب للعمل في جهاز الدولة سريع النمو، وُضعوا في مكانة اجتماعية منحتهم امتيازات ما كانت معروفة لدى الغالبية العظمى من العمال. ومع أن هذه الامتيازات قد لا تبدو باهظة للغاية، إلا أنها كانت كافية لتصبح عاملاً مؤثراً في التوجه السياسي للعديد ممن تمتعوا بها.
أنتجت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) ظاهرة أخرى ذات أهمية سياسية بالغة هي إحياء المشاعر القومية. صنع البلاشفة الثورة الروسية باسم الأممية البروليتارية والثورة العالمية. ما سبق في تاريخ العالم أن شهد حزباً قطيعة حاسمة مع التقاليد الوطنية للبلد الذي استولى على السلطة فيه. ففي الواقع، عاش قطاع كبير من قيادة الحزب البلشفي لسنوات خارج روسيا. فبحلول الوقت الذي عاد فيه لينين إلى روسيا في أبريل 1917، كان قد عاش في المنفى لما يقرب من 20 عاماً. عاش تروتسكي منذ عام 1900،في المنفى إذ ما أمضى ِ سوى عام ونصف تقريبا، خلال دوامة ثورة 1905 وما تلاها مباشرة، في روسيا. أي إنه عاش في المنفى خلال السنوات العشر التي سبقت عام 1917، وما كان هذا غريباً. كان معظم قادة الثورة الروسية رجالاً اكتسبوا سنوات من الخبرة في الحركة العمالية العالمية. كان العديد منهم يجيدون عدة لغات. أعتقد أن لينين كان يجيد أربع لغات: الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية. أما ستالين، فكان استثنائياً بين قادة الحزب الرئيسيين، تحديداً في افتقاره إلى الخبرة الدولية وعدم قدرته على التحدث بأي لغة أجنبية.
ولكن في عام 1917، ما كان حتى ستالين ليتحدى المفهوم الأممي للثورة الذي ساد داخل الحزب البلشفي. وبالفعل، نددت الطبقات التي أُطيح بها بالبلاشفة كقوة سياسية غريبة تماماً عن روسيا. وما كان من قبيل الصدفة أن التهمة الرئيسية التي وجهتها البرجوازية إلى لينين في عام 1917 كانت أنه خائن لروسيا، دفع ثمنه 'الذهب الألماني'. ففي أعقاب الثورة مباشرة، نظر أولئك الذين عاشوا في المهجر إلى الحزب البلشفي على أنه منتهك لكل ما اعتزوا به في ثقافة روسيا القديمة.
ولكن مع إدخال السياسة الاقتصادية الجديدة، أصبحت الاتجاهات التي أكدت أو على الأقل لفتت الانتباه إلى الطابع الوطني الخاص للثورة شائعة بشكل متزايد. في البداية، وجد هذا الاتجاه تعبيره الأكثر وضوحاً بين مجموعة من المهاجرين الذين دعوا إلى المصالحة مع الثورة الروسية. ففي مقال نُشر في مجلد 'المعالم المتغيرة' (سمينا فيخ) الصادر عام 1921، جادل كاتب يُدعى نيكولاي أوستريالوف بأنه مهما كانت تسمية الثورة - اشتراكية، شيوعية، أممية - فإنها في نهاية المطاف نتاج التاريخ الروسي والثقافة الروسية.[1] وكتب أوستريالوف أن السياسة الاقتصادية الجديدة ما كانت تراجعاً تكتيكياً قام به البلاشفة لكسب الوقت للثورة الدولية وحسب، بل كانت عودة الثورة إلى جذورها الروسية الحقيقية؛ وأن الدولة السوفيتية، على الرغم من ادعاءات قادتها، كان مقدراً لها أن تتطور إلى دولة برجوازية روسية. وبدلاً من معارضة الثورة، حث أوستريالوف على تشجيع تطورها الروسي والبرجوازي الطبيعي.
حظيت حجج أوستريالوف بمتابعة وثيقة داخل روسيا السوفيتية، ولاقت صدىً واسعاً. وقد لاقت آراء أوستريالوف، إلى حد ما، ترحيباً باعتبارها اعترافاً باستقرار النظام السوفيتي وتنامي هيبته. إلا أن هذا الرد عكس أيضاً انبعاثاً للمشاعر القومية داخل روسيا السوفيتية، والتي لم تكن قطاعات كبيرة من الحزب، التي افتقر معظمها إلى الخبرة الدولية الواسعة والمعرفة النظرية التي تمتع بها كوادر ما قبل عام 1917 - بمنأى عنها بأي حال من الأحوال. وبدأت مجموعة من الأدبيات في الظهور مع مؤلفين مشهورين، مثل بوريس بيلنياك، الذين صوروا ومجدوا الطابع الروسي للثورة.
وقد تجذر هذا التطور في التناقضات الاجتماعية للثورة الروسية. فقد قادها حزب بروليتاري، لكنها اعتمدت على دعم ملايين الفلاحين، الذين شكلوا غالبية السكان. إلا أن موقف الفلاحين من الثورة كان متناقضاً إذ دعم الفلاحون الثورة البلشفية التي منحتهم الأرض، لكنهم لم يُعيروا اهتماماً يُذكر للشيوعية وللتضامن الدولي للطبقة العاملة.
لم يُعبّر إحياء المشاعر القومية عن نظرة الفلاحين فحسب، بل عبّر أيضاً عن مشاعر موظفي البيروقراطية المتنامية، الذين أصبحوا ينظرون إلى الثورة أكثر فأكثر من منظور الامتيازات التي خلقتها لمن شغلوا مناصب مرموقة في الدولة السوفيتية الوطنية الجديدة. و أدرك لينين، بفطنته السياسية، ذلك.
أيام لينين الأخيرة
في مارس 1922، وبعد عام واحد من تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP)، قدّم لينين التقرير السياسي إلى المؤتمر الحادي عشر للحزب. وتناول بإسهاب كتاب 'المعالم المتغيرة' وسعى إلى شرح الأهمية السياسية العميقة لحجج أوستريالوف. فبالنسبة للينين، كمنت أهمية كتاب 'المعالم المتغيرة' تحديداً في أن ملاحظاته على مسار الثورة الروسية ما كانت بلا أساس، بل عكست في الواقع العمليات الاجتماعية الحقيقية داخل الدولة السوفيتية.
فبالنسبة للينين، ما كان من المستبعد أن تصبح السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) نقطة انطلاق لانحطاط عميق للثورة الروسية. وقال لينين للمؤتمر: 'بصراحة قدم أوستريالوف ، لنا خدمة جليلة'.
نحن، وأنا تحديداً، بحكم منصبي، نسمع يوميًا الكثير من الأكاذيب الشيوعية العاطفية، والكذب الشيوعي، حتى أننا مللنا منها، ولكن الآن بدلاً من هذه الأكاذيب الشيوعية، أحصل على نسخة من مجلة 'سمينا فيخ' قالت بوضوح تام: 'انظروا، الأمور ليست كما تتخيلونها. أنتم تنزلقون إلى مستنقع البرجوازية الاعتيادي، حيث الأعلام الشيوعية منقوشة بشعارات في كل مكان.'[2]
وتابع لينين:
يجب أن نقول بصراحة إن ما تحدث عنه أوستريالوف ممكن. فالتاريخ عرف كل أنواع التحولات. والاعتماد على رسوخ القناعة والولاء وغيرها من الصفات الأخلاقية الرائعة ليس موقفاً جاداً في السياسة. قد يتمتع قلة من الناس بصفات أخلاقية رائعة، لكن القضايا التاريخية تُحسم من قِبل جماهير غفيرة، والتي، إذا لم تُعجبها هذه القلة، قد تُعاملها أحيااناً بقسوة.[3]
لو تحدث أوستريالوف يتحدث باسمه فقط أو باسم آلاف المهاجرين القلائل الذين عاشوا في المنفى المرير، لما كان هناك أي سبب للقلق السياسي. لكن لينين حذّر:
عبر أتباع 'سمينا فيخ' عن مشاعر آلاف وعشرات الآلاف من البرجوازيين أو الموظفين السوفييت الذين وقعت على عاتقهم مسؤولية تطبيق سياستنا الاقتصادية الجديدة. هذا هو الخطر الحقيقي والرئيسي، ولذلك يجب تركيز الاهتمام بشكل رئيسي على سؤال: من سينتصر؟ لقد تحدثتُ عن المنافسة. لا يُشن علينا هجوم مباشر الآن. لا أحد يمسك بنا من رقابنا. صحيح أننا لم نر بعد ما سيحدث غداً، لكننا اليوم لا نتعرض لهجوم مسلح. ومع ذلك، فقد أصبح الصراع ضد المجتمع الرأسمالي أشد وطأة وخطورة بمئة مرة لأننا لا نستطيع دائماً التمييز بين الأعداء والأصدقاء. [4]
ثم حدد لينين تناقضاً محورياً في النظام السوفييتي:
إذا أخذنا موسكو بشيوعيها الـ 4700 في مناصب المسؤولية، وإذا أخذنا الآلة البيروقراطية الضخمة، الكومة العملاقة، فيجب أن نسأل: 'من يوجه من؟' أشك كثيراً في إمكانية القول بصدق أن الشيوعيين يوجهون الكومة. في الحقيقة، إنهم لا يوجهون، بل يُوجَّهون. حدث هنا شيء مشابه لما قيل لنا في دروس التاريخ عندما كنا أطفالاً: أحياناً تنتصر أمة على أخرى، والأمة التي تنتصر هي المنتصرة والأمة المهزومة هي الأمة المهزومة. هذا بسيط ومفهوم للجميع. ولكن ماذا يحدث لثقافة هذه الأمم؟ هنا الأمور ليست بهذه البساطة. إذا كانت الأمة المنتصرة أكثر ثقافة من الأمة المهزومة، فإن الأولى تفرض ثقافتها على الثانية؛ ولكن إذا كان العكس هو الصحيح، فإن الأمة المهزومة تفرض ثقافتها على الثانية. ألم يحدث شيء مماثل في عاصمة جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية؟ هل وقع الشيوعيون البالغ عددهم 4700 (أي ما قارب لواء عسكري كامل، وجميعهم من النخبة) تحت تأثير ثقافة غريبة؟ صحيحٌ أنه قد يكون هناك انطباعٌ بأن المهزومين تمتعوا بمستوى ثقافي عالٍ. لكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. ثقافتهم بائسة وضئيلة، لكنها لا تزال أعلى من ثقافتنا. على الرغم من بؤسها وتواضعها، إلا أنها أعلى من ثقافة مسؤولينا الشيوعيين المسؤولين، إذ يفتقرون إلى الكفاءة الإدارية.[5]
أثار لينين، من خلال ذلك الخطاب، موضوعاً سياسياً هيمن على السنة الأخيرة المضطربة من حياته السياسية. ففي كانون الثاني/يناير 1921، عرّف لينين النظام السوفييتي بأنه 'دولة عمالية ذات تشوهات بيروقراطية'.[6] ونظراً لأن المهمة المعقدة المتمثلة في إدارة بلد ضخم ومتخلف ولّدت الحاجة إلى بيروقراطية دولة متزايدة الاتساع، ونظراً لأن النظام اضطر إلى تجنيد مسؤولي جهاز الدولة القيصري القديم، الذين سرعان ما غمروا العدد القليل نسبياً من الكوادر الثورية ذات الخبرة، ازداد قلق لينين بشأن الطابع الاجتماعي المتغير للحزب ونظرته المستقبلية. أدرك لينين التناقض الرهيب الذي واجه النظام السوفييتي. كانت السياسة الاقتصادية الجديدة ضرورية لإنقاذ الثورة، لكنها سرّعت أيضاً من الظروف التي يمكن أن تؤدي، في ظل بعض متغيرات التطور، إلى تدميرها.
بعد شهرين فقط من إلقائه هذا الخطاب، أصيب لينين بسكتة دماغية حادة. فقد القدرة على الكلام وأصيب بالشلل. لكنه تعافى بسرعة مذهلة، وبحلول أوائل خريف عام 1922، عاد إلى منصبه القيادي. إلا أن الوضع الذي واجهه الآن داخل الحزب والدولة أقنعه بأن تحذيره السابق تحقق بسرعة أكبر مما توقع. وتفاقمت مخاوف لينين بسبب وضع في القيادة نتج عن قرار اتُخذ قبل مرضه بفترة وجيزة، وهو تعيين ستالين أميناً عاماً للحزب.
منح ذلك المنصب ستالين القدرة على تحديد من يشغل المناصب في الحزب والدولة. في عهد ستالين، أصبح منصب الأمين العام مركزاً لعملية محسوبيات واسعة النطاق، واستثمر ستالين هذه الفرصة اللامحدودة لاستغلال هذا المنصب لتنصيب رفاقه في مناصب مهمة. تمكن ستالين، بتلك الطريقة، تدريجياً من بناء شبكة شخصية ضخمة من المؤيدين الذين أدانوا له ه في حياتهم المهنية وراحتهم. في الوقت نفسه، غالباً ما وجد أولئك الذين ما وثق بهم ستالين أنفسهم مهمشين. كانت إحدى أساليب ستالين المفضلة لعزل تروتسكي تعيين أقرب مؤيديه، مثل أدولف جوف، في مناصب سفراء خارج روسيا السوفيتية. امتدت ممارسة التعيينات لتشمل جميع مجالات تنظيم الحزب تقريباً، مما قوّض بشكل كبير قدرة الأعضاء على ممارسة أي نوع من السيطرة السياسية على القيادة. أصبح من الشائع بشكل متزايد أن يُعين قادة منظمات الحزب المحلية من قبل الأمين العام، بدلاً من انتخابهم من قبل دوائرهم الانتخابية.
عندما عاد لينين إلى النشاط السياسي أواخر عام 1922، روعته التغييرات التي طرأت أثناء غيابه. ولا مبالغة إن قلنا إن لينين بالكاد تعرّف على الحزب الذي أسسه. صحيح أنه تعرّف على جميع الوجوه القديمة، لكنه أحسّ، بطريقة ما، أن قواعد اللعبة تغيّرت. فالرجال الذين اختارهم لينين ودربهم، و كان صعودهم إلى مراتب عليا نتاج أحداث تاريخية شكّلتها إلى حد كبير رؤيته و عبقريته، سعوا الآن إلى تحقيق غاياتهم السياسية الخاصة، دون وعي أو حتى اهتمام بالمصالح الطبقية التي تخدمها تلك الغايات في نهاية المطاف.
كان سؤالٌ جوهريٌّ في سياسة الدولة هو ما أقنع لينين بأن توجهاً سياسياً يمينياً يتبلور تدريجياً في بيئة الحزب الجديدة وغير المريحة. علم أن ستالين وافق خلال غيابه على مقترحات بوخارين وسوكولنيكوف للتخلي عن احتكار الدولة للتجارة الخارجية. أثار هذا الأمر قلق لينين الشديد، إذ عنى حرمان النظام السوفيتي من إحدى أهم وسائله لتنظيم وتقييد القوة الاقتصادية للقوى الرأسمالية التي عززت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) أنشطتها ونفوذها بشكل كبير. كان بإمكان الرأسماليين في الريف والمدينة البيع فيما بينهم، والبيع للدولة. لكن ما كان بإمكانهم البيع مباشرة للحكومات والشركات الأجنبية. كان على جميع التجارة الخارجية أن تمر عبر أيدي الدولة. خشي النظام البلشفي من أنه إذا تمكن الرأسماليون الروس والفلاحون الأثرياء من إقامة روابط مباشرة مع رأس المال الدولي، فستواجه الدولة العمالية قوة اقتصادية ساحقة لا يمكن السيطرة عليها. لذلك، عندما علم لينين بقرار التخلي عن الاحتكار، شعر بقلق بالغ. علاوة على ذلك، استشاط غضباً من اللامبالاة التي قوبلت بها استفساراته. في هذا الوضع الحرج، لجأ لينين إلى ليون تروتسكي. وشعر بالارتياح عندما علم أن تروتسكي عارض بدوره اقتراح التخلي عن الاحتكار.
اقترح لينين على تروتسكي تشكيل كتلة سياسية ضد التخلي عن الاحتكار. عندما علم ستالين بذلك، أدرك اطلاقاً من براعته السياسية، أن الحذر خير برهان، فسحب دعمه للتخلي عن الاحتكار. رحّب لينين بهذا النصر، وكتب إلى تروتسكي: 'يبدو أنه كان من الممكن الاستيلاء على الموقف دون طلقة واحدة، بمناورة بسيطة'.[7]
وقد أوحت رسالة لينين إليهم بمواصلة هجومهم السياسي. التقى لينين بتروتسكي لمناقشة تنامي نفوذ البيروقراطية، وكما ذكر تروتسكي لاحقاً، توصلا إلى اتفاق لتشكيل كتلة ضد البيروقراطية 'بشكل عام' وضد المكتب التنظيمي الذي يرأسه ستالين 'بشكل خاص'.
بحلول ذلك الوقت، في ديسمبر 1922، أدرك لينين أن أيامه معدودة. عانى من أرق شديد، ولاحظ أعراضاً أخرى سبقت أول سكتة دماغية كبرى أصيب بها. في ظل هذه الظروف الصعبة، تفاقم قلق لينين على وضع الحزب، ولا سيما وضع قيادته، بسبب حادثة أخرى. ففي أواخر عام 1922، كانت الحكومة البلشفية في المراحل الأخيرة من وضع الترتيبات الدستورية الجديدة بين الجمهوريات القومية، والتي كانت ستؤدي إلى تشكيل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية. كان لينين، المعارض الشرس للنزعة القومية الروسية، مصمماً على ألا تؤدي هذه الترتيبات إلى سيادة الأمة الروسية على التجمعات القومية الأخرى داخل الاتحاد السوفيتي المقترح. وأصر على بذل كل جهد ممكن لتلبية تطلعات ومشاعر القوميات التي ستشكل جزء من الاتحاد السوفيتي. ومن بين أكثر المناقشات حساسية تلك التي دارت مع البلاشفة الجورجيين، الذين أعربوا عن استيائهم مما اعتبروه تعدياً على حقوقهم المشروعة. أبدى لينين بعض الاستياء من موقفهم، لكن آراءه تغيرت عندما أدرك السلوك المتغطرس والاستفزازي لستالين ودزيرجينسكي وأوردجونيكيدزه. وما أثار رعب لينين حقاً هو علمه أن أوردجونيكيدزه استخدم بالفعل القوة البدنية ضد أحد الجورجيين أثناء المفاوضات.
رأى لينين في هذا الحدث تعبيراً عن عوارض مرض سياسي عميق داخل الحزب البلشفي، وهو مرض كان في حد ذاته نتاج التناقضات الاجتماعية للثورة الروسية. فقط في هذا السياق السياسي يمكن للمرء أن يفهم سلسلة الوثائق غير العادية التي أملاها لينين في الأسابيع الأخيرة من حياته السياسية. تضمنت تلك الوثائق ما أصبح يُعرف بعد وفاته باسم وصية لينين.
أولاً وقبل كل شيء، استعرض لينين في مذكرة مؤرخة في 24 ديسمبر 1922 الشخصيات القيادية في الحزب البلشفي، لكن تركيزه كان على فردين اعتبرهما 'القائدين البارزين للجنة المركزية الحالية'، تروتسكي وستالين. كان تقييمه لتروتسكي مجاملاً للغاية. جعلته 'قدرته المتميزة' 'الرجل الأكثر كفاءة في اللجنة المركزية الحالية' [8]. ومع ذلك، فقد خفف من هذا الثناء ملاحظة أن تروتسكي قد أظهر 'انشغالاً مفرطاً بالجانب الإداري البحت للعمل'. ومن المرجح أن هذا النقد الخفيف عكس التوترات المستمرة التي نشأت أثناء نزاعهما الشهير حول النقابات العمالية قبل عامين تقريباً.
لكن انتقاد لينين لستالين كان من نوع مختلف تماماً: 'حاز الرفيق ستالين، بعد أن أصبح أميناً عاماً، سلطة غير محدودة مركزة بين يديه، ولست متأكداً إن كان سيظل قادر دائماً على استخدام تلك السلطة بحذر كافٍ'.[9]
والأهم من وصفه المختصر للرجلين هو ملاحظته الثاقبة والمدهشة بأن خطر الانقسام داخل الحزب البلشفي وجد تعبيره الأوضح في العلاقات بين ستالين وتروتسكي. قد يتساءل المرء: لماذا نسب لينين هذه الأهمية السياسية الهائلة للعلاقات بين هذين الرجلين؟ لطالما ندد لينين بالميل المبتذل إلى اختزال المشاكل السياسية المعقدة إلى مستوى الأفراد ونواياهم الذاتية. من المؤكد أنه ما غير نهجه تجاه المشاكل السياسية. بل لا بد أن لينين أدرك في التوتر المزمن بين تروتسكي وستالين تعبير عن صراعات اجتماعية حقيقية داخل الحزب البلشفي، كانت في حد ذاتها انعكاساً للتناقضات الاجتماعية التي هددت الثورة الروسية.
على الرغم من اختلافات لينين العرضية مع تروتسكي في فترات مختلفة من حياتهما السياسية، إلا أن لينين فهم بلا شك الطابع التاريخي لإنجازات تروتسكي، ومن احترامه وإعجابه توجد تصريحات مستقلة لأرملة لينين، ناديجدا كروبسكايا، وأدولف جوف، الذي تذكر أنه سمع لينين شخصياً يعترف بأن تطور الثورة الروسية أثبت صحة المواقف النظرية التي دافع عنها تروتسكي قبل عام 1917. علاوة على ذلك، وبعبارات موضوعية بحتة، لا بد أن لينين اعترف بتروتسكي كممثل سياسي بارز للبرنامج والتطلعات الدولية للثورة الروسية.
وفي هذا الصدد بالتحديد، مثّل ستالين داخل قيادة الحزب البلشفي النقيض السياسي لتروتسكي. فقبل تسعة أشهر، أشار لينين إلى مقال أوستريالوف، الذي عبرت آراؤه القومية عن 'مشاعر آلاف وعشرات الآلاف من البرجوازيين أو الموظفين السوفييت'. والآن، رأى لينين في شخص ستالين تجسيداً للبيروقراطية الروسية المتجددة، المشبعة بالشوفينية، التي شكلت الخطر الأعظم على مستقبل الثورة.
هذا التفسير لوصية لينين مُثبتٌ بالمذكرات المُوسّعة التي أملاها في الأيام التي تلت. في 30 ديسمبر/كانون الأول 1922، وجّه لينين انتباهه إلى الخلاف مع الجورجيين، وأملى تقييماً مُدمّراً لأنشطة ستالين وأتباعه. صرّح لينين قائلاً: 'إن وصلت الأمور إلى حدّ لجوء أوردجونيكيدزه إلى العنف الجسدي، فيمكننا تخيل حجمَ الورطة التي أوقعنا أنفسنا فيها'.
لكن ما كان أوردجونيكيدزه هو من حمله لينين المسؤوليةَ المركزيةَ عن 'الفوضى'. بل كان ستالين هو المُذنب الرئيسي، الذي وصفه لينين آنذاك بأنه 'شوفينيٌّ روسيٌّ عظيم، وغدٌّ وطاغيةٌ في جوهره، كأيِّ بيروقراطيٍ روسيٍ نموذجي'. وأشار بازدراءٍ إلى 'حقد' ستالين، مُشيراً إلى أن 'الحقد في السياسة عادةً ما يلعب أدواراً دنيئة'.
اختتم لينين هذه المذكرة على النحو التالي: 'هنا لدينا سؤال مبدئي مهم: كيف نفهم الأممية؟'[10]
و ندد لينين في المذكرة نفسها، بستالين ووصفه بأنه 'اشتراكي قومي حقيقي، بل وحتى متنمر روسي مبتذل'. [11]
بينما كان لينين يدرس التداعيات السياسية لتحليله، توصل إلى استنتاج مفاده أن سلطة ستالين داخل القيادة يجب أن تُقلص بشكل جذري. لذلك، كتب لينين، في 4 يناير/كانون الثاني 1923، الملحق الشهير لوصيته: 'ستالين فظّ للغاية، وهذا العيب، وإن كان مقبولاً في أوساطنا وفي تعاملاتنا مع الشيوعيين، فإنه يصبح غير مقبول في منصب الأمين العام. لذلك أقترح على الرفاق التفكير في طريقة لإقالة ستالين من هذا المنصب وتعيين شخص آخر بدلاً منه، يختلف عنه في جميع النواحي الأخرى بميزة واحدة فقط، وهي أنه أكثر تسامحاً، وأكثر ولاءً، وأكثر تهذيباً، وأكثر مراعاةً للرفاق، وأقل تقلباً في المزاج.' [12]
كان من المقرر عقد مؤتمر للحزب في أبريل/نيسان 1923. ما عرف لينين إن كان سيتمكن من حضوره شخصياً. لذلك، كرّس كل طاقاته لمهمتين مترابطتين: أولاً، كتب مقالين رئيسيين سعى فيهما إلى تحليل مشاكل جهاز الدولة السوفيتية ('كيف نعيد تنظيم تفتيش العمال والفلاحين؟' و'من الأفضل أن يكون العدد أقل، لكن أفضل')؛ وثانياً، استعد لمواجهة سياسية مع ستالين. قدمت المقالات نفسها تقييماً مدمراً لإدارة ستالين للحزب وإدارة الدولة، لدرجة أنه بُذلت جهود لمنع نشر مقال 'من الأفضل أن يكون العدد أقل، لكن أفضل'. في الواقع، اقتُرح في المكتب السياسي نشر المقال في طبعة وهمية من صحيفة 'برافدا' تتكون من نسخة واحدة فقط تُعرض على لينين. ولكن في أوائل عام 1923، ما كان من الممكن فعلياً تنفيذ مثل هذا الاحتيال السياسي. أعد لينين، على الرغم من المؤامرات التي أحاطت به، على حدّ تعبير سكرتيره، 'قنبلة ضد ستالين'. كان من المقرر أن يوثق ذلك 'الملف' ، ليُقدّم إلى المؤتمر الثاني عشر، لفضح انتهاكات ستالين للسلطة، التي شملت، على سبيل المثال لا الحصر، اضطهاده للبلاشفة الجورجيين، بل أيضاً سلوكه المُهين تجاه زوجة لينين. وفيما يتعلق بالحادثة المذكورة، طالب لينين، في 5 مارس/آذار 1923، ستالين باعتذار، وحصل عليه. فرغم براعته في الخداع، ما كان ستالين نداً له في الصراع السياسي.
ما كان لينين ليطلب من ستالين الندم، بل طلب اعتذار مكتوب دليلاً موثقاً آخر على سلوكه التعسفي، وهو ما كان يحتاجه للحصول على موافقة المؤتمر القادم على إقالة ستالين من منصب الأمين العام.
لولا السكتة الدماغية التي أنهت حياته السياسية بعد ثلاثة أيام فقط، لكان لينين قد ألقى 'قنبلته' في المؤتمر الثاني عشر. لكن إبعاده المفاجئ عن المشهد كان يعني تغييراً جذرياً في موازين القوى داخل قيادة الحزب الشيوعي الروسي. فقبل ست سنوات فقط، كانت عودة لينين في الوقت المناسب إلى روسيا هي التي مكّنته من تغيير موقف الحزب المتهاون تجاه الحكومة المؤقتة، ووضعها على مسار الاستيلاء على السلطة. الآن، ومع تزايد قوة رد الفعل الترميدوري ضد الثورة السوفيتية، أخّر مرض لينين المفاجئ لعدة أشهر حاسمة بدء صراع مفتوح ضد البيروقراطية.
انتهى
[1] Nikolay Ustryalov (1890-1937) is known as the main ideologist of National Bolshevism. Having been a supporter of the counterrevolutionary White armies during the civil war, once the Bolsheviks had consolidated power and introduced the New Economic Policy, he changed his political attitude toward the Soviet government. In the collection of essays Smena Vekh (Changing Landmarks), which was first published in Prague in 1921, he and his co-thinkers outlined a nationalist interpretation of the Russian revolution. They became known as the “smenavekhovtsy.” In the inner-party struggle of the 1920s, the Left Opposition would often refer to the ideas of Ustryalov as the most consciously anti-Marxist articulation of the nationalist program of “socialism in one country.”
[2] Vladimir Lenin, Opening Speech to the 11th Congress of the Russian Communist Party, March 27, 1922. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/mar/27.htm
[3] Ibid.
[4] Ibid.
[5] Ibid.
[6] Vladimir Lenin, “The Party Crisis,” January 19, 1921. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1921/jan/19.htm
[7] Note by Vladimir Lenin to Leon Trotsky, December 21, 1922. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/dec/21.htm
[8] Vladimir Lenin, “Letter to the Congress,” note from December 25, 1922. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/dec/testamnt/congress.htm
[9] Vladimir Lenin, “Letter to the Congress,” note from December 24, 1922. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/dec/testamnt/congress.htm
[10] Vladimir Lenin, “The Question of Nationalities or ‘Autonomisation,’” December 30, 1922. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/dec/testamnt/autonomy.htm.
[11] Ibid.
[12] Vladimir Lenin, Addendum to the “Letter to the Congress,” January 4, 1923. URL: https://www.marxists.org/archive/lenin/works/1922/dec/testamnt/congress.htm